فصل: (سورة النحل: آية 51)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



عبد الله بن عبّاس: نزلت هذه الآية في نصارى نجران حين قالوا: عيسى ابن الله، يقول: لا يرد المولى على ما ملكت يمينه مما رزق حتّى يكون المولى والملوك في المنال شرعًا سواء فكيف ترضون لي مالا ترضون لانفسكم نظيرها في سورة الروم {ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلًا مِّنْ أَنفُسِكُمْ} [الروم: 28]. مثلا تعاينه.
قال: {أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ} بالاشراك به.
قرأ عاصم: بالتاء على الخطاب، لقوله: {والله خَلَقَكُمْ} {والله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ}.
وقرأ الباقون: بالياء لقوله: {فَهُمْ فِيهِ سَوَاء} [النحل: 71]، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم: لقرب المخبر منه.
{والله جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} يعني أنه خلق من آدم زوجته حوّاء {وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً}.
ابن عبّاس والنخعي وابن جبير وأبو الأضحى: هم الأصهار أختان الرجل على بناته.
روى شعبة عن عاصم: بن بهدلة قال: سمعت زر بن حبيش وكان رجلًا غريبًا أدرك الجاهلية قال: كنت أمسك على عبد الله المصحف فأتى على هذه الآية قال: هل تدري ما الحفدة، قلت: هم حشم الرجل.
قال عبد الله: لا، ولكنهم الأختان، وهذه رواية الوالبي عن ابن عبّاس.
وقال عكرمة والحسن والضحاك: هم الخدم.
مجاهد وأبو مالك الأنصاري: هم الأعوان، وهي رواية أبي حمزة عن ابن عبّاس قال: من أعانك حفدك.
وقال الشاعر:
حفد الولائد حولهن وأسلمت ** بأكفهنّ أزمّة الأجمال

وقال عطاء: هم ولد الرجل يعينونه ويحفدونه ويرفدونه ويخدمونه.
وقال قتادة: مهنة يمتهنونكم، ويخدمونكم من أولادكم.
الكلبي ومقاتل: البنين: الصغار، والحفدة: كبار الأولاد الذين يعينونه على عمله.
مجاهد وسعيد بن جبير عن ابن عبّاس: إنهم ولد الولد.
ابن زيد: هم بنو المرأة من الزوج الأوّل، وهي رواية العوفي عن ابن عبّاس: هم بنو امرأة الرجل الأوّل.
وقال العتبي: أصل الحفد: مداركة الخطر والإسراع في المشي.
فقيل: لكل من أسرع في الخدمة والعمل: حفدة، واحدهم حافد، ومنه يقال في دعاء الوتر: إليك نسعى ونحفد، أي نسرع إلى العمل بطاعتك.
وأنشد ابن جرير للراعي:
كلفت مجهولها نوقًا يمانية ** إذا الحداة على أكسائها حفدوا

{وَرَزَقَكُم مِّنَ الطيبات أفبالباطل يُؤْمِنُونَ}.
قال ابن عبّاس: بالأصنام.
{وَبِنِعْمَتِ الله هُمْ يَكْفُرُونَ} يعني التوحيد الباطل فالشيطان أمرهم بنحر البحيرة والسائبة والوصيلة والحام {وَبِنِعْمَتِ الله} بما أحلّ الله لهم {هُمْ يَكْفُرُونَ} يجحدون تحليله.
{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السماوات} يعني المطر {والأرض} يعني النبات.
{شَيْئًا}، قال الأخفش: هو بدل من الرزق وهو في معنى: ما لا يملكون من الرزق شيئًا قليلًا ولا كثيرًا.
قال الفراء: نصب شيئًا بوقوع الرزق عليه. كما قال سبحانه: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض كِفَاتًا أَحْيَاء وَأَمْواتًا} [المرسلات: 25-26]. أي يكفت الأحياء والأموات، ومثله قوله تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ} [البلد: 14-15].
{وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ} ولا يقدرون على شيء، {فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأمثال} يعني الأشباه والأشكال فيشبهوه بخلقه ويجعلون له شريكًا فإنه واحد لا مثيل له {إِنَّ الله يَعْلَمُ} خطأ ما يضربون له من الأمثال {وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} صواب ذلك من خطاه. اهـ.

.قال الزمخشري:

.[سورة النحل: آية 51]

{وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)}.
فإن قلت: إنما جمعوا بين العدد والمعدود فيما وراء الواحد والاثنين، فقالوا عندي رجال ثلاثة وأفراس أربعة، لأن المعدود عار عن الدلالة على العدد الخاص، وأما رجل ورجلان وفرس وفرسان، فمعدودان فيهما دلالة على العدد، فلا حاجة إلى أن يقال: رجل واحد ورجلان اثنان، فما وجه قوله إلهين اثنين؟ قلت: الاسم الحامل لمعنى الإفراد والتثنية دال على شيئين: على الجنسية والعدد المخصوص، فإذا أريدت الدلالة على أنّ المعنىّ به منهما، والذي يساق إليه الحديث هو العدد شفع بما يؤكده، فدل به على القصد إليه والعنايه به. ألا ترى أنك لو قلت: إنما هو إله، ولم تؤكده بواحد: لم يحسن، وخيل أنك تثبت الإلهية لا الوحدانية {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} نقل للكلام عن الغيبة إلى التكلم، وجاز لأنّ الغالب هو المتكلم، وهو من طريقة الالتفات، وهو أبلغ في الترهيب من قوله: وإياه فارهبوه، ومن أن يجيء ما قبله على لفظ المتكلم.

.[سورة النحل: آية 52]

{وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52)}.
{الدِّينُ} الطاعة {واصِبًا} حال عمل فيه الظرف، والواصب: الواجب الثابت، لأنّ كل نعمة منه فالطاعة واجبة له على كل منعم عليه، ويجوز أن يكون من الوصب، أي: وله الدين ذا كلفة ومشقة، ولذلك سمى تكليفا. أو: وله الجزاء ثابتا دائما سرمدا لا يزول، يعني الثواب والعقاب.

.[سورة النحل: الآيات 53- 55]

{وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)}.
{وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ} وأىّ شيء حل بكم، أو اتصل بكم من نعمة، فهو من اللّه {فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ} فما تتضرعون إلا إليه، والجؤار: رفع الصوت بالدعاء والاستغاثة. قال الأعشى يصف راهبا:
يُرَاوِحُ مِنْ صَلَوَاتِ الْمَلِيكِ ** طَوْرًا سُجُودًا وَطَوْرًا جُؤَارَا

وقرئ: {تجرون}، بطرح الهمزة وإلقاء حركتها على الجيم، وقرأ قتادة: {كاشف الضرّ} على: فاعل بمعنى فعل، وهو أقوى من كشف، لأن بناء المغالبة يدل على المبالغة. فإن قلت: فما معنى قوله {إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ}؟ قلت: يجوز أن يكون الخطاب في قوله: {وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} عاما، ويريد بالفريق: فريق الكفرة وأن يكون الخطاب للمشركين ومنكم للبيان، لا للتبعيض، كأنه قال فإذا فريق كافر، وهم أنتم، ويجوز أن يكون فيهم من اعتبر، كقوله: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} {لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ} من نعمة الكشف عنهم.

.[سورة النحل: آية 56]

{وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} [56]
{لِما لا يَعْلَمُونَ} أي لآلهتهم، ومعنى لا يعلمونها: أنهم يسمونها آلهة، ويعتقدون فيها أنها تضر وتنفع وتشفع عند اللّه، وليس كذلك، وحقيقتها أنها جماد لا يضر ولا ينفع، فهم إذًا جاهلون بها، وقيل: الضمير في لا يَعْلَمُونَ للآلهة. أي: لأشياء غير موصوفة بالعلم، ولا تشعر اجعلوا لها نصيبًا في أنعامهم وزروعهم أم لا؟ وكانوا يجعلون لهم ذلك تقربا إليهم {لَتُسْئَلُنَّ} وعيد {عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} من الإفك في زعمكم أنها آلهة، وأنها أهل للتقرب إليها.

.[سورة النحل: الآيات 57- 59]

{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساء ما يَحْكُمُونَ (59)}.
كانت خزاعة وكنانة تقول: الملائكة بنات اللّه {سُبْحانَهُ} تنزيه لذاته من نسبة الوالد إليه. أو تعجب من قولهم: {وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ} يعني البنين، ويجوز في ما يَشْتَهُونَ الرفع على الابتداء، والنصب على أن يكون معطوفا على البنات، أي: وجعلوا لأنفسهم ما يشتهون من الذكور، وظَلَّ بمعنى صار كما يستعمل بات وأصبح وأمسى بمعنى الصيرورة، ويجوز أن يجيء ظل، لأن أكثر الوضع يتفق بالليل، فيظل نهاره مغتما مربد الوجه من الكآبة والحياء من الناس {وَهُوَ كَظِيمٌ} مملوء حنقًا على المرأة {يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ} يستخفى منهم {مِنَ} أجل {سُوءِ} المبشر به، ومن أجل تعييرهم ويحدث نفسه وينظر أيمسك ما بشر به {عَلى هُونٍ} وذل {أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ} أم يئده، وقرئ: {أيمسكها على هون أم يدسها} على التأنيث، وقرئ: {على هوان} {أَلا ساء ما يَحْكُمُونَ} حيث يجعلون الولد الذي هذا محله عندهم للّه، ويجعلون لأنفسهم من هو على عكس هذا الوصف.

.[سورة النحل: آية 60]

{لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)}.
{مَثَلُ السَّوْءِ} صفة السوء: وهي الحاجة إلى الأولاد الذكور وكراهة الإناث ووأدهن خشية الإملاق، وإقرارهم على أنفسهم بالشح البالغ {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى} وهو الغنى عن العالمين، والنزاهة عن صفات المخلوقين وهو الجواد الكريم.

.[سورة النحل: آية 61]

{وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاء أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (61)}.
{بِظُلْمِهِمْ} بكفرهم ومعاصيهم {ما تَرَكَ عَلَيْها} أي على الأرض {مِنْ دَابَّةٍ} قط ولأهلكها كلها بشؤم ظلم الظالمين، وعن أبى هريرة: أنه سمع رجلا يقول: إن الظالم لا يضرّ إلا نفسه، فقال: بلى واللّه، حتى أنّ الحبارى لتموت في وكرها بظلم الظالم، وعن ابن مسعود: كاد الجعل يهلك في جحره بذنب ابن آدم. أو من دابة ظالمة، وعن ابن عباس {مِنْ دَابَّةٍ} من مشرك يدب عليها، وقيل: لو أهلك الآباء بكفرهم لم تكن الأبناء.

.[سورة النحل: آية 62]

{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)}.
{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ} لأنفسهم من البنات ومن شركاء في رياستهم، ومن الاستخفاف برسلهم والتهاون برسالاتهم، ويجعلون له أرذل أموالهم ولأصنامهم أكرمها {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ} مع ذلك {أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى} عند اللّه كقوله: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى}، وعن بعضهم أنه قال لرجل من ذوى اليسار: كيف تكون يوم القيامة إذا قال اللّه تعالى: هاتوا ما دفع إلى السلاطين وأعوانهم، فيؤتى بالدواب والثياب وأنواع الأموال الفاخرة، وإذا قال: هاتوا ما دفع إلىّ فيؤتى بالكسر والخرق ومالا يؤبه له، أما تستحيي من ذلك الموقف؟ وقرأ هذه الآية.
وعن مجاهد: أنّ لهم الحسنى، هو قول قريش: لنا البنون، وأن لهم الحسنى: بدل من الكذب.
وقرئ {الْكَذِبَ} جمع كذوب، صفة للألسنة {مُفْرَطُونَ} قرئ مفتوح الراء ومكسورها مخففًا ومشدّدًا، فالمفتوح بمعنى مقدّمون إلى النار معجلون إليها، من أفرطت فلانا، وفرّطته في طلب الماء، إذا قدمته، وقيل. منسيون متروكون، من أفرطت فلانا خلفي إذا خلفته ونسيته.
والمكسور المخفف، من الإفراط في المعاصي، والمشدّد، من التفريط في الطاعات وما يلزمهم.

.[سورة النحل: آية 63]

{تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63)}.
{فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ} حكاية الحال الماضية التي كان يزين لهم الشيطان أعمالهم فيها. أو فهو وليهم في الدنيا فجعل اليوم عبارة عن زمان الدنيا، ومعنى {وَلِيُّهُمُ} قرينهم وبئس القرين. أو يجعل {فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ} حكاية للحال الآتية، وهي حال كونهم معذبين في النار، أي فهو ناصرهم اليوم لا ناصر لهم غيره، نفيًا للناصر لهم على أبلغ الوجوه، ويجوز أن يرجع الضمير إلى مشركي قريش، أنه زين للكفار قبلهم أعمالهم، فهو ولى وهؤلاء، لأنهم منهم، ويجوز أن يكون على حذف المضاف، أي: فهو ولى أمثالهم اليوم.

.[سورة النحل: الآيات 64- 65]

{وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماء ماء فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)}.
{وَهُدىً وَرَحْمَةً} معطوفان على محل {لِتُبَيِّنَ} إلا أنهما انتصبا على أنهما مفعول لهما، لأنهما فعلا الذي أنزل الكتاب، ودخل اللام على لتبين: لأنه فعل المخاطب لا فعل المنزل، وإنما ينتصب مفعولا له ما كان فعل فاعل الفعل المعلل، والذي اختلفوا فيه: البعث، لأنه كان فيهم من يؤمن به، ومنهم عبد المطلب، وأشياء من التحريم والتحليل والإنكار والإقرار {لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} سماع إنصاف وتدبر، لأنّ من لم يسمع بقلبه، فكأنه أصم لا يسمع.

.[سورة النحل: آية 66]

{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خالِصًا سائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)}.
ذكر سيبويه الأنعام في باب مالا ينصرف في الأسماء المفردة الواردة على أفعال، كقولهم: ثوب أكياش، ولذلك رجع الضمير إليه مفردًا، وأمّا {فِي بُطُونِها} في سورة المؤمنين، فلأنّ معناه الجمع، ويجوز أن يقال في الأنعام وجهان، أحدهما: أن يكون تكثير نعم كأجبال في جبل، وأن يكون اسمًا مفردًا مقتضيًا لمعنى الجمع كنعم، فإذا ذكر فكما يذكر: (نعم) في قوله:
فِى كُلِّ عَامٍ نَعَمٌ تَحْوُونَه ** يُلْقِحُهُ قَوْمٌ وَتَنْتِجُونَهْ

وإذا أنث ففيه وجهان: أنه تكسير نعم، وأنه في معنى الجمع، وقرئ {نُسْقِيكُمْ} بالفتح والضم، وهو استئناف، كأنه قيل: كيف العبرة، فقيل نسقيكم {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ} أي يخلق اللّه اللبن وسيطًا بين الفرث والدم يكتنفانه، وبينه وبينهما برزخ من قدرة اللّه لا يبغى أحدهما عليه بلون ولا طعم ولا رائحة، بل هو خالص من ذلك كله. قيل: إذا أكلت البهيمة العلف فاستقرّ في كرشها طبخته، فكان أسفله فرثا، وأوسطه لبنا، وأعلاه دما، والكبد مسلطة على هذه الأصناف فسبحان اللّه ما أعظم قدرته وألطف حكمته لمن تفكر وتأمّل، وسئل شقيق عن الإخلاص فقال: تمييز العمل من العيوب، كتمييز اللبن من بين فرث ودم سائِغًا سهل المرور في الحلق.
ويقال: لم يغص أحد باللبن قط، وقرئ: {سيغًا} بالتشديد، وسيغًا، بالتخفيف. كهين ولين.
فإن قلت: أي فرق بين {من} الأولى والثانية؟ قلت: الأولى للتبعيض، لأن اللبن بعض ما في بطونها، كقولك: أخذت من مال زيد ثوبًا، والثانية لابتداء الغاية، لأن بين الفرث والدم مكان الإسقاء الذي منه يبتدأ، فهو صلة لنسقيكم، كقولك: سقيته من الحوض، ويجوز أن يكون حالا من قوله: {لَبَنًا} مقدما عليه، فيتعلق بمحذوف، أي: كائنًا من بين فرث ودم.
ألا ترى أنه لو تأخر فقيل: لبنًا من بين فرث ودم كان صفة له، وإنما قدم لأنه موضع العبرة، فهو قمن بالتقديم، وقد احتج بعض من يرى أن المنى طاهر على من جعله نجسا، لجريه في مسلك البول بهذه الآية، وأنه ليس بمستنكر أن يسلك مسلك البول وهو طاهر، كما خرج اللبن من بين فرث ودم طاهرًا.